عودة الشعوب
عودة الشعوب
بقلم: يونس مسكين
في انتظار أن تتضح الصورة داخل سوريا لنعرف ما ستتجه إليه الأحداث من ترتيبات، أو مزيد من الفوضى لا قدّر لله، لا يمكننا أن نتجاهل هذا الكمّ الهائل من الشر المبكّر الذي أبدته إسرائيل نحو سوريا والسوريين.
نتانياهو الذي يريد أن يقنع العالم أنه سعيد بسقوط نظام بشار الأسد، بل بأنه ساهم في ذلك وكان له دور حاسم فيه، يدفع بجيشه المجرم في الوقت نفسه ليلقي حمما من النار فوق رؤوس السوريين ويستهدف في اليوم الأول لما بعد الأسد في سوريا، أكثر من مئة هدف بعضها عسكري وبعضها الآخر علمي…
في هذه اللحظة التاريخية التي شهدت فيها سوريا سقوط نظام بشار الأسد، لم تكتفِ إسرائيل بمراقبة الأحداث من بعيد، بل اندفعت إلى لعب دورها المفضل: الاستثمار في الخراب وتقديم نفسها كفاعل رئيسي في مشهد سياسي وأمني يعيد تشكيل المنطقة.
سقوط الأسد كشف عن ازدواجية إسرائيلية صارخة. فقد برزت كعدوّ أول لسوريا ما بعد الأسد، تماما كما كانت عدوّها أثناء حكمه.
والمفارقة هنا ليست في العداء بحد ذاته، بل في تحول إسرائيل من خصم لنظام الأسد إلى خصم لمعارضيه، أي أنها وبكل اختصار، مناوئ مباشر لأي مشروع محتمل يعيد لسوريا مكانتها واستقلالها.
منذ اللحظات الأولى لسقوط دمشق في أيدي المعارضة المسلحة، كانت تل أبيب تسعى لاستثمار الحدث سياسيا وإعلاميا. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي طالما استخدم الخطاب الأمني لترسيخ شعبيته، وصف الإطاحة بالأسد بأنها انتصار استراتيجي لإسرائيل في مواجهة المحور الإيراني. ولا تنفصل هذه التصريحات عن حملة القصف المكثفة التي شنتها إسرائيل على مواقع عسكرية ومراكز يُعتقد أنها تابعة لإيران وحزب الله.
ظاهريا، تُظهر إسرائيل نفسها كمدافع عن أمنها القومي، لكنها في الواقع تسعى إلى تشكيل المشهد السوري الجديد بما يخدم مصالحها.
وما يثير السخرية في الخطاب الإسرائيلي، الذي عبّر عنه نتانياهو بوضوح في ندوته المنفعلة مساء الاثنين 09 دجنبر، هو محاولته سرقة شرف النصر من السوريين أنفسهم.
المعارضة المسلحة، التي خاضت معارك دامية واستعادت السيطرة على دمشق وحمص، كانت القوة الحقيقية وراء إسقاط النظام. لكن إسرائيل، كما هو دأبها، لا تفوّت فرصة لتحوير الأحداث لتظهر وكأنها اللاعب الرئيسي، سواء عبر التصريحات الرسمية أو الحملات الإعلامية المكثفة.
هذه السردية الإسرائيلية التي سارع نتانياهو إلى محاولة تثبيتها، تعكس استراتيجية أوسع تهدف إلى تهميش دور الفاعلين المحليين والدوليين الآخرين، بما في ذلك السوريين وحلفائهم الإقليميين. وهو يقول لشعوب المنطقة إنهم أعجز من أن يقرروا مصائرهم أو يضبطوا علاقاتهم مع حكامهم، وأن “إلههم” الجديد تسمه إسرائيل، هو الذي يختار لهم. لقد قالها نتانياهو بكل وضوح: “من يتعاون معنا يربح بشكل كبير، ومن يعادينا يخسر بشكل كبير”
الرسالة واضحة: إسرائيل ليست مجرد متفرج في سقوط الأسد، بل طرف يحاول كتابة الرواية السياسية والأمنية الجديدة في سوريا، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة التاريخية.
الغارات الجوية الإسرائيلية، التي استهدفت مواقع حساسة في سوريا بعد سقوط النظام، تحمل دلالات تتجاوز البعد الأمني. هذه الهجمات تمثل محاولة واضحة لفرض واقع جديد يمنع سوريا من استعادة سيادتها أو بناء قوتها العسكرية.
إسرائيل تدرك أن الفراغ الذي خلفه سقوط الأسد يمثل فرصة ذهبية لتأمين حدودها الشمالية، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى تحييد أي مشروع سياسي جديد قد يعيد للسوريين مكانتهم.
فهي لا تخشى فقط من ظهور جماعات مسلحة قد تستغل الفوضى لاستهدافها، بل تخشى أيضا من إمكانية نشوء دولة سورية مستقلة وديمقراطية قادرة على اتخاذ قراراتها بمعزل عن التدخلات الخارجية. مثل هذه الدولة قد تعيد فتح ملف الجولان المحتل أو تنضم إلى محور إقليمي يعيد التوازن للمنطقة، وهو ما لا يمكن لإسرائيل قبوله.
المفارقة أن إسرائيل، التي طالما هاجمت نظام الأسد باعتباره جزءا من محور الشر الإيراني، تجد نفسها اليوم أمام معضلة: كيف يمكنها الحفاظ على مصالحها في ظل غياب الأسد؟ الإجابة تكمن في محاولتها تشكيل المشهد السوري الجديد عبر القصف والضغط السياسي واستغلال الفراغ الإقليمي.
ما يبرز بوضوح هو استمرارية الدور الإسرائيلي كعدو للشعوب العربية، سواء في سوريا أو فلسطين. إسرائيل لا ترى في سوريا سوى مساحة لتصفية حساباتها مع إيران وحزب الله، لكنها تتجاهل الكلفة الإنسانية الباهظة التي دفعها السوريون لتحقيق حريتهم. وهذا العداء ليس جديدا، لكنه يظهر في ثوب أكثر وضوحًا مع سقوط الأسد.
المستقبل السوري مرهون بقدرة السوريين على بناء نظام سياسي جديد يتجاوز الهيمنة الإسرائيلية ويعيد للبلاد سيادتها. التحدي الحقيقي، والذي برز بوضوح في اليوم الأول بعد رحيل الأسد، لا يكمن فقط في إعادة بناء ما دمره الأسد، بل أيضا في مواجهة أطماع إسرائيل وتدخلاتها المستمرة. النظام الجديد يجب أن يكون قادرا على التوفيق بين مصالحه الوطنية والعلاقات الإقليمية، دون أن يقع في فخ التبعية لأي طرف.
إسرائيل اليوم تلعب دورا مزدوجا في سوريا: مستثمر في الخراب وصانع للفراغ السياسي. سقوط الأسد يمثل فرصة تاريخية للسوريين لإعادة بناء بلادهم، لكنه في الوقت نفسه اختبار لقدرتهم على مواجهة عداء إسرائيلي متجدد يسعى لإبقاء سوريا تحت السيطرة.
وإسرائيل، التي تدعي حماية أمنها القومي، تثبت مرة أخرى أنها ليست سوى عدو الشعوب، عدو الحرية، وعدو أي مشروع يطمح لاستقلال حقيقي في المنطقة.