تطور النظام السياسي المغربي بعد دستور 2011 ودور الأحزاب السياسية في تنزيله (2012-2025)
تطور النظام السياسي المغربي بعد دستور 2011 ودور الأحزاب السياسية في تنزيله (2012-2025)
بحث وتحليل : المهندس عبد الحكيم الناصف بوروايل – مكناس الشامخة .
مقدمة
يشكّل دستور 2011 محطة مفصلية في مسار التحول السياسي بالمغرب، باعتباره ثمرة حراك اجتماعي داخلي وتفاعل ذكي مع متغيرات إقليمية ودولية، أبرزها موجة “الربيع العربي”. هذا الدستور جاء ليؤسس لملكية دستورية برلمانية ديمقراطية واجتماعية، قوامها فصل السلط وتوازنها، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعزيز مكانة رئيس الحكومة المنتخب.
غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بعد مرور أكثر من عقد على هذا التحول هو: إلى أي حدّ عرف النظام السياسي المغربي تطورًا فعليًا في بنيته وآلياته، وما دور الأحزاب السياسية في تفعيل مضامين الدستور؟
أولاً: التحول الدستوري وبنية النظام السياسي.
أقرّ دستور 2011 انتقالًا تدريجيًا من “الملكية التنفيذية” إلى “الملكية الدستورية المتشارِكة ”، حيث تم توسيع صلاحيات رئيس الحكومة، وتعزيز استقلال القضاء، وضمان تعددية فاعلة للمجتمع المدني والإعلام.
ورغم استمرار الطابع المهيمن للمؤسسة الملكية في توجيه السياسات الكبرى (الأمن، الخارجية، المشاريع الاستراتيجية)، فإن الوثيقة الدستورية فتحت آفاقا واسعة أمام الحكومة والبرلمان لممارسة أدوارهما في التشريع والتدبير والمساءلة.
لكن التجربة السياسية الممتدة من 2012 إلى 2025 أبرزت أن التحول الدستوري لم يواكبه تحول مماثل في الثقافة السياسية والممارسة الحزبية، مما جعل التجربة المغربية تعيش نوعًا من "التوازن المراقب" بين الإصلاح والاستمرارية.
ثانياً: دور الأحزاب السياسية في تنزيل الدستور وتدبير الشأن العام.
منذ انتخابات 2011، تعاقبت على رئاسة الحكومة وتحالفاتها عدة أحزاب تمثل الطيف السياسي المغربي في تنوعه الإيديولوجي والتنظيمي. وسنقف عند أبرزها:
1. حزب العدالة والتنمية (2012–2021): من رهان الإصلاح إلى أزمة المصداقية
قاد الحزب الإسلامي تجربة حكومية غير مسبوقة في تاريخ المغرب الحديث.
فقد نجح في بدايته، تحت قيادة عبد الإله بنكيران، في إرساء خطاب سياسي إصلاحي قائم على القرب من المواطنين ومحاربة الريع والفساد، وفي تحقيق بعض المكاسب الاجتماعية (صندوق التماسك الاجتماعي، إصلاح التقاعد، توسيع برامج الدعم).
غير أن مرحلة ما بعد 2016، وخصوصًا مع حكومة سعد الدين العثماني، كشفت عن تراجع الحزب أمام صلابة البنية الإدارية والمصالح الاقتصادية، مما أدى إلى تآكل رصيده الشعبي وانتهى به الأمر إلى هزيمة انتخابية قاسية سنة 2021.
وبذلك، مثّل العدالة والتنمية تجربة إصلاحية مؤسِّسة لكنها محدودة الأثر البنيوي على النظام السياسي.
2. حزب التجمع الوطني للأحرار (2021–الآن): من المنطق. الاقتصادي إلى منطق الدولة الاجتماعية
بعد انتخابات 2021، قاد عزيز أخنوش حكومة جديدة رفعت شعار “الدولة الاجتماعية” و”فرص للجميع”.
يراهن الحزب على تدبير تقني وبراغماتي يركز على الإصلاح الاقتصادي والرقمنة وتعميم الحماية الاجتماعية.
غير أن التجربة أظهرت، حتى الآن، ميلًا نحو الطابع الإداري أكثر من السياسي، وغياب دينامية حقيقية في الوساطة الحزبية.
ورغم تحقيق بعض البرامج الاجتماعية، فإن ضعف التواصل السياسي وغلاء المعيشة جعلا صورة الحزب مرتبطة أكثر بـ"المقاولة الحكومية" منها بـ"القيادة السياسية".
3. حزب الأصالة والمعاصرة (البام): من المعارضة الحداثية إلى المشاركة الحذرة.
نشأ الحزب كقوة حداثية أرادت موازنة الإسلاميين، لكنه دخل تدريجيًا في تحالفات حكومية بعد 2021.
ورغم موقعه كنائب لرئيس الحكومة، فإن البام لم ينجح بعد في بلورة هوية سياسية واضحة داخل الحكومة، وظلّ يعيش تناقضات داخلية بين خطه الحداثي وبين ضرورات التوافق الحكومي.
ومع ذلك، يشكل وجوده في السلطة مؤشرًا على انفتاح النظام على التعددية المتوازنة.
4. حزب الاستقلال: عودة تاريخية بين الأصالة والتجديد.
استعاد الحزب موقعه الطبيعي في الحكومات الأخيرة، بعد مرحلة من التراجع التنظيمي.
بفضل تاريخه العريق، يسعى إلى لعب دور الوسيط بين المدرسة الوطنية المحافظة ومتطلبات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
وقد ساهم في الحفاظ على التوازن داخل التحالف الحكومي، لكنه ما زال يبحث عن مشروع مجتمعي واضح يعيد له وزنه كقوة وطنية مرجعية.
5. الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: يسار الهوية المتعبة.
ظلّ الحزب حاضراً في المشهد السياسي سواء في المعارضة أو المشاركة، لكنه فقد بريقه التاريخي كرافعة للتغيير.
منذ خروجه من قيادة الحكومة سنة 2007، لم يستعد قدرته على التأثير الشعبي، رغم احتفاظه بخطاب حقوقي واجتماعي.
تجربته الحالية تكشف عن أزمة القيادة وتجديد النخب أكثر من أزمة الأفكار.
6. حزب التقدم والاشتراكية: وفاء مع نقد ذاتي
رغم حجمه البرلماني المحدود، ظل الحزب من أكثر الفاعلين السياسيين اتساقًا مع مبادئه، خصوصًا في مجالات التنمية البشرية والصحة والسكن.
انسحابه من الحكومة سنة 2019 كان تعبيرًا عن رفضه لمنطق تدبير لا يراعي المقاربة الاجتماعية.
ويمثل اليوم ضميرًا نقديًا داخل المشهد الحزبي.
7. الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري: الحضور التقليدي بلا تجديد.
كلا الحزبين شارك في مختلف الحكومات كقوة مساندة، لكنه لم يطوّر بعد خطابا جديدا يتماشى مع التحولات الاجتماعية.
وظلّ حضوره مرتبطًا بالتحالفات أكثر من البرامج، مما يطرح سؤال جدوى استمرار هذا النمط من "الأحزاب الإدارية" في زمن المطالبة بالتجديد السياسي.
ثالثاً: بين النص الدستوري والممارسة السياسية:
ما 2012 و2025، تكشف التجربة المغربية عن مفارقة مركزية:
دستور متقدّم ونخبة سياسية متردّدة.
فبينما أتاح الإطار الدستوري إمكانات حقيقية لبناء نظام برلماني متوازن، بقيت الممارسة الحزبية حبيسة منطق التدبير الانتخابي لا الإصلاحي.
إن ضعف التأطير، وغياب الديمقراطية الداخلية، وتغليب المصالح الشخصية، كلها عوامل أعاقت تنزيل الدستور بروحه الإصلاحية.
رابعاً: آفاق التطور السياسي:
يبدو أن النظام السياسي المغربي في طور انتقال بطيء نحو عقلنة سلطوية مرنة، تجمع بين استقرار المؤسسة الملكية وتدرّج الممارسة الديمقراطية.
وحتى يتحقق الانتقال الديمقراطي المنشود، تظل الأحزاب السياسية مطالَبة بإعادة بناء ثقتها المجتمعية عبر:
#تجديد النخب المحلية والوطنية،
# تفعيل آليات المحاسبة والمشاركة،
# إنتاج برامج واقعية تستجيب لتحديات التنمية،
# استعادة دورها كوسيط بين الدولة والمجتمع.
خاتمة
لقد أتاح دستور 2011 للمغرب فرصة تاريخية لترسيخ نموذج سياسي متوازن، إلا أن تحقيق هذا الطموح رهين بمدى قدرة الأحزاب على تجاوز ثقافة التدبير إلى ثقافة الإصلاح.
فالنظام السياسي المغربي تطوّر مؤسساتيًا، لكنه ما زال في حاجة إلى تطور سياسي وثقافي موازي يرسخ دولة الحق والقانون والمواطنة الفاعلة.



