الصحافي يولدُ صحفيا!
الصحافي يولدُ صحفيا!
زايد الرفاعي / ماستر في الصحافة المكتوبة
كأنثى طاووس متغطرسة ألقت بعِقدها المستفز إلى حافة مشاعري التي تلظت بحضور حيرتي وغياب عطرها.
أزاحت الجريدة التي تفصلني عنها، وقرأت بصوت عال رصين عنوان المقال الذي كان سر إهمالي لها، وسبب ترفعي عن الزمان وتسللي من عين المكان، مكانها.
رفعت جبينها كسهم ساهب، وبصمت أنيق راحت تتفحصني، تقرأني.
كانت تجيد قراءة العيون، كنت أجيد السباحة عبر العيون، هنا نلتقي.
أضحت العين بالعين، والقلب للقلب.
أعادت غطرستها واستعادت عطرها، وقالت لي:
- زياد أنت لم تخلق لقراءة الجرائد، أنت خلقت لتكتب في الجريدة.
- كاتب،صحافي، الصحافة ستظل فكرتي المنشودة، لكن صدقيني
ما أسهل تسريح الكلمات! وما أصعب الإمساك بالأفكار!
ما أسهل موت الأحلام! وما أصعب عيش الواقع!
- ها أنت ذا، قلت: "ما أصعب"، يعني ليس مستحيلا، والمستحيل يبقى كذلك إلى حين يقوم به شخص ما، كن أنت ذلك الشخص.
- أعلم أنه ليس مستحيلا، لكننا نعيش في وطن كلما قلنا نستطيع، أجابنا جدار ما، بصدى يستحيل.
- أنظر، ليست مجاملة، أنت كاتب بحق، الباب أمامك مفتوح عن مصراعيه، أُدخلْه واثقا آمنا.
عندما قالت: "الباب أمامك" تدفقت صورة والدي أمامي، وتذكرت وصيته: يكفيك من الحلم يا زياد أن تقف على بابه.
نظرت إليها بابتسامة واثقة، أحكمت قبضتي على اليراع الذي كان ياقظا منتظرا على أوراق بكر، متناثرة حاشية السمراء التي كانت وستبقى شاهدة على ما نقول.
-أتعلمين يا هند، الصحافي يولد صحفيا، وأنا ولدت من صلب الكتابة
ترعرعت بين أوراق طه حسين، وقاسم أمين، توفيق الحكيم ونوال السعداوي، خالص جلبي وفيصل القاسم، فاطمة نعوت وعبد الباري عطوان...
لذا سأثبت يوما أن عروقي يسكنها كاتب، وكل كاتب هو بالضرورة صحافيا.
فسجليها بماء الذهب، سأصير من أشهر كتاب العمود في الوطن العربي.
فلبيك يا "صاحبة الجلالة"، لبيك يا "مهنة المتاعب".
صافحتني مصافحة الحبيبة لحبيبها، وهي تردد: لهذا أحبك؛ مناضلا، قويا، لماحا وملِّحا ..
قبلنا بعضنا عبر الأثير
إلتقينا مجددا في الهواء أهديتها قزحا، أهدتني سحابة.
عدنا إلى لغة العيون، هي تعلمني القراءة أنا أعلمها السباحة.
والحق يقال؛ كانت حينها المرأة التي طالما بحثت عنها، وقبل أن يعودني الهجر رددت سرا وعلانية: "وجدتها".
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة رافقت هندا لمشاهدة فيلم أمريكي يحكي قصص نساء ضحّين بحياتهن من أجل الوطن.
كان الفيلم موحيا رائعا، مليئا بقضايا مهنية وطبقية واجتماعية جد جد حساسة، لكن الذي أثار انتباهي أكثر، قصة صحفية عصامية متمردة، قالت نهاية الفيلم: الصحافة لابد أن تبقى في خدمة المحكومين، لا أن تكون في خدمة الحكام.
خرجتُ وهندا من السينما، تسكعنا قليلا، تناقشنا حول قضايا المرأة، ضحكنا وداعبنا بعضنا، ثم ودعتها وأبرمنا موعدا بعد يومين.
في غسق زنزانتي -أقصد غرفتي- أعدت بشكل خاطف أحداث الفيلم، وتوقفت كثيرا عند قول "المرأة"
- الصحافة لابد أن تبقى في خدمة المحكومين، لا أن تكون في خدمة الحكّام.
عبارة تحتاج إلى تشريح سميائي لتحليلها وتفكيكها، وفهم هواجس رسالتها.
عبارة قالت الكثير بالقليل، فلخصت مبدأ صاحبة الجلالة.
خاطبت نفسي منفعلا:
إنها أمريكية، إنها صحافة الغرب.. ربما هناك فرق!
إنه مجرد فيلم أجنبي أساسا.
هنا؛ كي تصير صحفيا عليك أن تلتزم بأربع قواعد، إنها لعبة، ولكل لعبة قواعدها:
أولا: أن ترى بالعين المجردة رجلا يعض كلبا!
ثانيا: أن تفهم مليا، إنْ كان الأطباء ملائكة الرحمة، فإن الصحفيين هم حور العين!
ثالثا: أن تكون جاهزا دوما لترفع صوتك قائلا: "الصحافة ليست جريمة".
رابعا: أن تشير بقبضتك إلى السماء، وتحطم القيود، وتكتب على ظهر الهواء
"إن كسروا قلما سنصنع قلمين".
للأمانة؛ لولا وجود هند في هذه الفترة الضبابية، لكنت قد كسرت القلم وخبأت نصفه إلى حين، وربما لكسرت جميع الأشياء.
للأمانة مرة ثانية؛ كانت قريبة مني ساندة حلمي البعيد.
جعلتني أستعيد ما تبقى من عنفوان الحبر، خصوصا أن مهنة المتاعب كانت قد أنهكت عزيمتي.
لقد قادتني لأكتب بقلبي لا بقلمي، لاسيما أن القلب صار هشا بعد رحيل "خلود"، (السينيوريتا) التي هاجرتني بعد أن أغراها جواهري بخاتم من ذهب وقفص من فضة، غادرتني تاركة تمثالها المنحوت في ساحة القلب.
خلود النبض الأول، أول من، أحببت، كانت لوحتي التشكيلية، موسيقاي المفضلة.
كانت ككوكب بعيد يدنو ببطء، كل شيء في حضرتها يوحي بالخلود.
ظننتها ستكون إسما على، مسمى، لكن؛ لقدري اتجاه معاكس، ربما الحب لايليق بي!
بعد رحيلها التهبت العواصف، وتجمدت العوطف.
رحلت خلود وخيانتها من صدري لم ترحل، تركت فراغا بل كان بياضا لا ريب.
إن كانت "خلود" لجأتها عاطفيا، فإن "هند" لبستني ولبستها باحثا عن اللجوء النفسي.
هكذا نحن مواليد برج الحمل، قدرنا أن نحيا لاجئين ما بين صقيع هائم، وحضن عابر.



