مغرب المواطنة مدير النشر: خالد الرحامني / E-mail: info@mouatana.com
تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار
مغرب المواطنة2025-06-29 21:38:50
للمشاركة:

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

توفيق اجانا

عندما يتحول التقاعد إلى احتفال بالحياة وعلامة على استمرارية العطاء، تبرز قصة الأستاذ الحاج محمد برعي كرمز للإخلاص والتفاني. في لحظة جمعت بين الدموع والابتسامات، والوفاء والاعتراف، أهدت مجموعة مدارس البريدية الابتدائية يومًا خاصًا لتوديع مديرها، الذي أنهى رحلة حافلة بالعطاء المهني والإنساني، وفتح صفحة جديدة عنوانها الذاكرة والامتنان. الحفل الذي احتضنته إحدى المساحات الطبيعية، شهد حضور نخبة من الشخصيات التربوية، وممثلين عن المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية،والتعليم الاولي، إلى جانب زملاء وأصدقاء وأفراد من عائلته المهنية والوجدانية.

من العتمة إلى البصمة: حكاية نهوض إداري

حين وطئت قدما الأستاذ الحاج محمد برعي عتبة مجموعة مدارس البريدية، كانت المؤسسة في حالة “سكتة قلبية إدارية” بكل ما تحمله العبارة من دلالة ثقيلة. إدارة محترقة بالكامل، لا أثر فيها لوثيقة واحدة، ولا وجود لأي أرشيف يُحتكم إليه، وكأن المدرسة تحولت إلى جسد بلا روح، يتلوى تحت وطأة الفوضى والإهمال والتشتت.

هذه الصورة ليست مجرد وصف لوضع مأساوي، بل تعبير عن أزمة عميقة في التدبير الإداري، حيث يصبح غياب التنظيم والهيكلة بمثابة الموت البطيء لأي مؤسسة، خصوصًا في مجال حساس كالتعليم.

لكن ما ميّز الحاج برعي هو قدرته على إعادة الحياة إلى هذا الجسد المتعب، عبر نبض جديد من الإرادة والوعي الإداري. في ظرف وجيز لم يتجاوز العامين، أعاد تشكيل الإدارة من الصفر، وشيد أرشيفًا تربويًا نموذجياً يعكس الحرص على توثيق المسار والعمل المؤسسي، وأرسى بيئة عمل متكاملة تسودها قيم الانضباط، الشفافية، والاحترام المتبادل بين كل مكونات المدرسة.

هذا التحول لا يقتصر على جوانب تنظيمية بحتة، بل هو في العمق تجسيد لقيادة حقيقية تُنقذ المؤسسة من الغرق في الفوضى، وتعيد إليها مكانتها وكرامتها كمركز للتعلم والتربية. فالمؤسسة التي كانت تُعاني من سكتة إدارية، تحولت إلى نموذج للريادة والنجاح، يُحتذى به على صعيد التنظيم والانفتاح والالتزام المهني.

الشهادات التي سمعها الحاضرون في حفل تكريمه كانت ليست مجرد كلمات مجاملة، بل تعبير صادق عن أثر إنساني عميق، يتجاوز الإنجاز الإداري إلى بُعد تربوي وروحي، يخلّف بصمة لا تمحى في نفوس كل من عمل معه أو استفاد من قيادته.

إن قصة هذا التحول تحمل في طياتها درسًا واضحًا: الإدارة ليست مجرد تنفيذ للإجراءات، بل هي فن إعادة الحياة، وإشعال الأمل، وبناء جسور الثقة والنجاح، وكل ذلك ممكن حين يجتمع العزم مع الحكمة والإخلاص.

قيادة تولد من الإجماع

لم يكن تأثير الأستاذ الحاج محمد برعي محصورًا داخل أسوار المؤسسة التي أدارها، بل امتدّ إشعاعه إلى الفضاء الوطني التربوي، حيث حظي بثقة زملائه وانتُخب رئيسًا لجمعية مديرات ومديري وزارة التربية الوطنية. هذا الموقع لم يكن منحة ظرفية، بل استحقاقًا نابعًا من مسار ناصع بالحكمة، والقدرة على تدبير الخلافات، والترافع الهادئ والفعال عن قضايا الشغيلة التربوية.ومن بين أبرز محطاته الترافعية، دفاعه المستميت عن ملف المتصرفين التربويين، حيث لعب دورًا محوريًا في نقل مطالبهم إلى الجهات المسؤولة، وساهم في تحقيق مكاسب ملموسة لفائدتهم، مستندًا في ذلك إلى حُسن التواصل، وقوة الحجة، وعمق الإيمان بعدالة قضيتهم. لم يكن صوتًا مرتفعًا يبحث عن التصفيق، بل كان صوتًا جماعيًا يُعبّر عن انشغالات الميدان، بنَفَس هادئ وإرادة جماعية صلبة.

فاعل ثقافي بروح مدنية

لم يكن الحاج محمد برعي مجرد مدير تربوي ناجح، بل كان فاعلًا ثقافيًا ومجتمعيًا بامتياز، يحمل في قلبه همًّا حضاريًا يتجاوز حدود الوظيفة الإدارية الضيقة. فقد آمن بأن المدرسة ليست فقط فضاءً للتلقين، بل نواة لتحفيز الفكر، وبناء الإنسان، وإحياء الذاكرة الجماعية.

من هذا المنطلق، انخرط الحاج برعي بقوة في العمل الجمعوي والثقافي، مؤسسًا ومساهمًا في دينامية مدنية حقيقية داخل مدينة مكناس وخارجها. من أبرز محطاته في هذا السياق، إشرافه على مختبر القصبة للدراسات، وهي مبادرة بحثية وفكرية تهدف إلى ربط المعرفة بالمجال، وتحفيز التفكير النقدي حول قضايا التربية، والهوية، والتنمية المحلية. كما ساهم بشكل فعّال في أنشطة أكاديمية قصبة هدراش للتراث، التي تُعنى بإحياء الذاكرة الثقافية، وصون الموروث اللامادي، وتقديمه للأجيال الجديدة في صيغة تربوية جذابة وذات حمولة معرفية عميقة.

وإلى جانب هذا العمل التأصيلي، راكم الأستاذ برعي تجربة مهنية ثرية كمدرب معتمد في مجال تقوية قدرات الفاعلين الجمعويين والتربويين. لم تقتصر تدخلاته التدريبية على مدينة مكناس، بل شملت مناطق أخرى، حيث أطر لقاءات وورشات حول الحكامة التشاركية، والتدبير الفعّال، وبناء المشاريع المجتمعية، مُستثمرًا بذلك خبرته التربوية الطويلة في تأطير النخب الجمعوية الصاعدة، وتحفيزها على تبني قيم الالتزام والمواطنة الفعالة.

إن هذا التداخل الإيجابي بين الإدارة والثقافة، بين التسيير اليومي والهمّ المجتمعي، هو ما جعل من الأستاذ برعي نموذجًا فريدًا للمثقف-المدبّر، الذي يرى في كل مبادرة تربوية فرصة لإعادة صياغة علاقة المواطن بالمعرفة، والتاريخ، والمجتمع.

على الركح، في الميدان، وبخيوط الخياطة: أبعاد متعددة في حياة الحاج محمد برعي

قبل أن يلج عالم التربية والتعليم، كان المسرح هو الملاذ الأول للأستاذ الحاج محمد برعي، ومجاله التعبيري الذي تمرّنت فيه روحه على النطق بالحياة. لم يكن مجرد هاوٍ يصعد الخشبة، بل فنانًا بالفطرة، تشرّب لغة الجسد، وإيقاع الصوت، وبلاغة الصمت، وتدرّب على التقمص والانصهار في الأدوار، ما منحه قدرة نادرة على التواصل الوجداني مع الآخر، وهي الموهبة التي ستصبح لاحقًا حجر الزاوية في أسلوبه التربوي والإداري.

على الخشبة، تعلّم الإصغاء للذات وللجمهور. هناك تفتحت بدايات وعيه بأن التأثير لا يأتي من السلطة، بل من الصدق، والحضور، والرسالة. تلك الأدوات المسرحية ظلّت تلازمه داخل أسوار المدرسة: في إدارة الاجتماعات، في تهدئة التوترات، في بناء الجسور بين الفرقاء، وفي إعادة الأمل حين يبهت كل شيء.

أما خارج الخشبة، فكانت الملاعب متنفسه الآخر. على أرضية ملعب سيدي بابا، ارتدى الرقم 9 ضمن صفوف فريق “الدفاع”، لاعبًا مهاجمًا لا يُحسب فقط على خانة الأهداف، بل على خانة الروح الجماعية والانضباط الرياضي. صحيح أنه لم يسجّل هدفًا رسميًا يُذكر في سجلات المباراة، لكنه، كما رُوي في حفل تكريمه بابتسامة ممزوجة بالحب، “لم يتسلل إلى مرمى الخصم، بل تسلل إلى القلوب، وإلى قلب الإدارة، فأصاب الهدف دون عناء!”

هذه الطرفة، وإن قيلت مازحة، تختصر جوهر الحكاية: لم يكن الحاج برعي يلاحق النجومية ولا يركض خلف الأضواء، بل كان يسكن الظلّ ليمنح الضوء للآخرين. تسلل إلى مسارات الحياة بروح المسرحي، وحكمة المربي، وأناقة الرياضي، فصار اسمه محفورًا لا في وثائق الأرشيف، بل في وجدان من عرفوه، أو تتلمذوا على يديه، أو اقتبسوا من تجربته ما يعينهم على رسم طريقهم.

لم يكن مسار الحاج محمد برعي حكرًا على التربية والثقافة فقط، بل بدأ منذ صغره بتعلّم حرفة الخياطة، حيث كانت بداياته المتواضعة مع “البَرشمان”، قبل أن يتقن لاحقًا خيوط هذا الفن اليدوي بدقة وأناقة. ومع مرور الوقت، تحوّلت الخياطة من مجرد هواية طفولية إلى مهارة راسخة، ظلّ يمارسها حتى اليوم. فرغم مسؤولياته الإدارية والثقافية، لم يتخلَّ أبدًا عن مقصّه وإبرته، ولا يزال يخيط ملابسه التقليدية بنفسه، بإتقان لا يقل عن إتقانه لقيادة المؤسسات. إن في وفائه لهذه الحرفة مثال حيّ على التواضع، وعلى ارتباطه العميق بجذوره ومهاراته اليدوية الأصيلة.

حين يصبح الصوت رسالة

امتد إشعاع الحاج محمد برعي ليشمل المجال الإعلامي، فكان له حضور متميز عبر برنامج إذاعي بعنوان “غيّر حياتك” على إذاعة مكناس الجهوية، حيث استطاع ببلاغته وعمق كلماته أن ينقل رسائل تحفيزية ملهمة تلامس وجدان المستمعين، فتشجعهم على التغيير الإيجابي وتطوير الذات. لم يقتصر دوره على الإذاعة فحسب، بل كان فاعلًا مؤثرًا في المشهد الإعلامي المحلي من خلال مساهماته الثابتة في جريدة “أخبار مكناس 24″، حيث قدم مقالات تنويرية وتعليقات ثاقبة تعكس وعيه واهتمامه بالقضايا المجتمعية. كما أسهم بكتابة مقالاته في صحيفة “مغرب المواطنة”، ليعزز من حضور الفكر البناء في الساحة الوطنية. إلى جانب ذلك، له ركن دائم في جريدة “ميديا 15” بعنوان “مع الكوتش محمد برعي”، حيث يقدم رؤى تحليلية ونصائح قيمة، ولا يزال اسمه ضمن الهيئة التحريرية، مما يؤكد استمرار عطائه الإعلامي والتربوي، ورغبته في خدمة المجتمع عبر مختلف الوسائط

خسارة بحجم مدرسة… وأفق بحجم وطن

برحيل الحاج محمد برعي عن الميدان الإداري، لا تخسر مؤسسة تعليمية فقط أحد أبرز أعمدتها، بل تخسر الإدارة المغربية كفاءة نادرة طبعت مسارها بالانضباط، والحكمة، والنَّفَس الإنساني العميق.

هي خسارة صامتة، لكنها ثقيلة، تضعنا أمام سؤال جوهري: كم من الكفاءات أمثال الحاج برعي غادرت مواقعها بصمت، دون أن تتحول تجربتها إلى مرجع يُحتذى؟

لذلك، أصبح من الضروري أن تعمد الدولة إلى فتح ورش بحثي وتوثيقي يرصد سِيَر من قدّموا خدمات جليلة للإدارة المغربية، في مختلف القطاعات والمجالات، وأن تُحوّل تلك التجارب إلى نماذج تدرّس وتُلهم الأجيال الجديدة من الإداريين.

بل لما لا يتم التفكير في إنشاء “مجلس الحكماء الإداريين”، يضم نخبة من ذوي التجارب الريادية، يُسند لهم دور استشاري دائم في تطوير وتجويد الأداء الإداري الوطني، كل من زاوية تخصصه ومجاله.

وتكون الغاية الأسمى من هذا التوجه، هي إعداد أطر إدارية جديدة، قادرة على التسيير بنفس الكفاءة، ولِمَ لا بما يفوقها، حين يُصقل الأداء وتُقل المواهب ويُستثمر في التكوين على ضوء تجارب من سبقوا.
لأن التميز الإداري لا يُورث، بل يُبنى على الخبرة، ويُغذّى بالرؤية، ويستمر حين لا نُهمل الذاكرة.

إن تكريم أمثال الحاج محمد برعي، لا يجب أن يكون لحظة احتفاء عاطفي فقط، بل انطلاقة نحو إرساء ثقافة الاعتراف بالكفاءات، وبناء الجسور بين جيل الرواد وجيل الغد… لأن الوطن لا يتقدّم فقط بالمشاريع، بل برجال تركوا أثرًا، وعلّموا بالصمت والكلمة.

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

تقاعد لا يشبه الغياب: البريدية تودّع نبضها الإداري في وداع يليق بالكبار

 

مغرب المواطنة
للمشاركة: